بقلم م. محمد خميس حمد

ليس الكلمات وحدها تحمل المعاني, غير أنها "أشهر" أوعية المعاني. ثمة أوعية أخرى كثيرة. لا يقلل هذا الأمر – وجود أوعية أخرى تحمل المعاني – من أهمية الحروف والكلمات. تعالوا نتجول في مركب من الكلمات (!) على بعض تلك الأوعية الأخرى, على الوسائط التي تنتقل بها وفيها المعاني والأفكار من رأس إلى رأس, من مدرك إلى مستدرك. من قلب إلى قلب. من خاطر ببال إلى مستشعر في الحال.
*

هناك لغة الإشارة التي استقرت أصولها, وقعدت قواعدها, ففهمها وأدرك ما ترمي إليه من معان كل أصم تعلمها, وخدمت كل أبكم أرادها. هذا باب عظيم لرسائل بلا كلمات تؤدي وظيفتها في احتواء المعاني ونقلها, غير أن الكاتب لا يعرف أسرار هذه اللغة ولا يحيط بها. ولكن فرعاً أو شذرات من هذه اللغة منتشرة في الناس, عربهم وعجمهم لا يفتأ يستعملها أغلب المجتمع بدون حصرها في بكم أو صم. وتتجه النية أن نفرد لبعض بعضها فقرة لاحقة.
*
ثمة رسائل تحملها أعضاء الجسد المختلفة في الحالات المتباينة, وهذه اللغة الجسدية تنضوي بداخلها معان قد لا يكون سهلاً على كل أحد تحميلها للكلمات, وأكاد أجزم أنه من اليسير أن يستعملها كل أحد, كبيراً أو صغيراً. كثيراً ما تحدث العاملون بهذه اللغة عن معانيها وفحوى رسائلها ومضمونها.
جلسة الواثق غير جلسة المرتاب, غير جلسة القلق, غير جلسة المتألم, أو المقهور, ولكل حالة جلستها. ملامح الوجه, أهم تلك الأوعية. المشاهد يقرأ (كلمات) العيون والخدود وخطوط الجبين, وحركات الحاجبين. الأنف أيضاً يقول. بلا كلمات, بلا أصوات تقول الشفاه, وتتكلم الأسنان ويتحدث اللسان. كيف يشخص الأطباء أمراض البدن وعلل النفس؟ من هذه الرسائل بلا كلمات.
لا ينكر أحد ما تقوله ملامح الوجه طلق المحيا, والكل يدرك المعاني الطيبة الظاهرة والمستورة. فأوصى ببشاشة الوجه الأنبياء, ونهى الحكماء عن تصعير الخد والكبرياء والتكشير والغضب.
قال قائل, كتب كاتب: في الصدر جوهرة تشع نوراً على الوجه. رسائل الملامح والقسمات مفضوضة لكل قارئ, ولا تحتاج سوى النظر والإدراك, وهذا ما يفعله العقلاء. رسائل الوجه لا يكتبها صاحب الوجه, ولكن تكتبها قوة خارجية لها حول وقوة. فإذا جاء صاحب الوجه ونجح في السيطرة على ملامحه وكتب عليها ما يريد أن يقرأه الآخرون, لكان فريداً من نوعه. البعض يستطيع. مثل ذلك في ملامح "النصاب" الذي يتمكن من كتابة رسائل طيبة كاذبة على ملامحه أثناء لقاءه بالمنصوب عليه. ومثله المجرم قبيل تنفيذ جرمه, مثلهما – والله أعلم – كثير من الشباب والشابات قبيل الزواج!! رسائل ملامح الوجه لا تحتاج خبرة أو تدريب. الطفل الصغير يرسل رسائل متنوعة كثيرة. يقرأها الكبار في ملامحه.
الشفاه المزمومة: لا أريد أن آكل.
البكاء (بمصاحبة الدموع أو بدونها): أنا زعلان.
الوجه الأحمر: أنا أحزق عافاكم الله.
الوجه الأصفر: أنا عيان.
الوجه الأزرق: أنا مخنوق من اللفة والقماط.
اهتزاز الشفتين: أنا بردان.
رسائل الكبار أدهى وتحمل معان وأفكار أقوى وأظهر. الوجه أبيض محمر: أنا ابن عز منذ الصغر. الوجه المبرقش: أنا ختيرت! شارب كث كبير: أنا عنيف، احذرني. حاجبان متقاربان متناطحان ككبشين أقرنين: أنا غضبان. خدود مليانه: أنا صحيح البدن. أنف يسيل: أنا مزكوم.
فم مفتوح, عيون متسعة: أنا مندهش. فم فاغر, عيون متسائلة: أنا غير مصدق.
*
الملابس تتحدث أيضاً بلا كلمات. تبعث رسائل معتبرة لمن أراد أن يعتبر. لون الملابس, مقاسها, نوعها, صناعتها, قماشها, تلائمها مع بعضها, كمالها أو نقصانها, كلها تؤدي رسائل محملة بالمعاني الكثيرة, صغيرة تلك المعاني كانت أم كبيرة. مثل الملابس, تكون المراكب. قديماً كانت الدواب, حديثاً هي السيارات. مَن استخدم الفرس في الركوب والانتقال. يعطي رسالة - دون قصد – مختلفة عن رسالة من يركب البغلة أو الأتان. من انتقل على دابته وحدها غير من انتقل في "رتل" من الدواب, وكان محفوفاً بالأتباع.
*
المشية تصدر رسائل غير مكتوبة وغير منطوقة, تخلو من الكلمات. رجل بيده عكاز يعينه في حركته غير من بيده صولجان, مثلاً. رجل يقفز قفزاً, غير من يزحف زحفاً. امرأة حامل تختلف رسائل مشيتها عن امرأة ليست بحامل.
*
تشد الرائي مضامينُ الرسائل التي تصدرها المرأة لناحية التساؤل أي هذه المضامين هو المقصود؟ فالرسائل لا كلمات محددة ولا معان مبينة. الحديث الآن ليس عن رسائل إرادية واعية تصدرها المرأة لقارئ أو قارئة تعنيها, بل هو حديث عن الرسائل بلا كلمات, بلا إرادة, (قد تكون واعية أو غير واعية) تصدر عن المرأة ترتبط بتبرجها أو ما يقال له الميك أب. هذا التبرج المصنوع والموجه لعموم القارئين والقارئات خارج الذات. أوشك أن أجزم أن ثمة جزء معتبر من الرسالة المقصودة (في الأغلب) موجه إلى الداخل. داخل المرأة ذاتها. التبرج يغطي سائر جسد المرأة, من شعر رأسها إلى أظافر قدميها. مروراً بالجبين والعينيين والجفنين والرموش والحاجبين, ثم الأذنين, ثم الخدين والذقن والرقبة والنحر والصدر والبطن و ... الساقين وأصابع الكفين والقدمين. يا إلهي, ما كل هذا؟ أين تختفي هذه الرسائل بعد الزواج؟ هي لا تختفي بالكلية. لكنها تختفي إذا دخلت المرأة بيت الزوجية وتظهر إذا خرجت.
المثل: جوا قردة, برا وردة.
ما علينا ! سُنة الحياة. طبيعة المرأة.
اصبر أو مت بغيظك!
أي المضامين هو المقصود في لحظة ما, من كل هذا التبرج؟
- أنا حلوة, جميلة.
- أنا غنية, ثرية, فاحشة الثراء.
- أنا أريد زوجاً, بعلاً. (بدون نقطة على العين)
- أريد أن أكون ظاهرة ومشاهدة ومرئية ولافتة.
- أريد أن أكون محبوبة, مرغوبة, مطلوبة.
- أنا متعلمة وأهتم بالموضة.
- أنا أعرف ما أريد, وأعرف ما يريدون.
- أنا أجمل من ...., أنا الأجمل.
- أنا أعلم أن الجمال ليس موهوباً كله, فلا بد من صنع جله.
- أنا أدرك أن الزمن يتغذى على الجمال ويتعشى على الشباب.
*
لنستمر في جولتنا. نطالع رسائل بلا كلمات. لنركب سيارة صالحة للسير على الطرقات:
- مؤشر السرعة.
- مؤشر الحرارة.
- مؤشر الوقود.
- صوت المحرك, يطلب – بإلحاح – تحريك ذراع علبة التروس.
- مؤشر الأبواب غير المقفلة جيداً.
مؤشر السرعة يقول, ضمن ما يقول: السرعة هي – مثلاً – 60 كيلو متراً في الساعة. أي أن في كل دقيقة تنتقل بك السيارة ألف متر. أي أنه في الثانية الواحدة تقطع من الطريق نحو 17 متراً. فلو أنك تستطيع أن توقف السيارة في ثانية واحدة للزمك أن تقطع 17 متراً قبل أن تقف السيارة. السرعة في حد ذاتها ليست سبباً في حوادث المرور, غير أنها عامل مهم جداً في نتائج الحادث إن حدث. الحوادث نوعان. الأول بأسباب تتعلق بطرف واحد, الثاني يتداخل فيها أطراف أخرى. العمدة الأساس في الحوادث كلها يتعلق بمستوى الانتباه والتركيز, غير انه لا مجال أبداً لاستبعاد القضاء والقدر.
مؤشر الحرارة يقول ضمن ما يقول:
- ماء التبريد غير كاف.
- ماء التبريد يهرب من مكان ما.
- صمام تدفق الماء لا يعمل.
- قشاط مروحة التبريد مقطوع أو مهترئ.
- المشع (الراديتور) متسخ.
- السرعة لا تتناسب مع ناقل الحركة.
- زيت المحرك قليل أو منعدم.
- حرارة الجو مرتفعة.
- رسائل أخرى يبحث عنها المختصون ويجدونها أو لا يجدونها.
مؤشر الوقود يقول:
- باقي في الخزان كذا وكذا.
- فتحة تعبئة خزان الوقود على اليسار أو على اليمين.
- مضخة الوقود تعمل أو لا تعمل.
*
نستمر في جولتنا. ندخل المطبخ. قد نقرأ رسائلاً فحواها:
- ها هنا سمك قد تم قليه.
- ست البيت كانت مشغولة هذا الصباح, المواعين لم تغسل.
- قد نأكل - بعد قليل – دجاجاً محمراً.
- صينية ما مضى على وجودها في الفرن مدة طويلة, انحرقت.
- ثمة تسريب مياه, الأرضية مبلولة.
- في هذا البيت صغار.
- ......
*
في الشارع :
- هذا الحي غير راق. الحاويات ملآى بالقمامة, حولها مرميات مبعثرة.
- البلدية تعاني أزمة ما. لا صرف صحي هنا. لا إنارة. أسلاك الهاتف والكهرباء متدلية بغير إحكام.
- لا تخطيط, المباني غير مرتبة ولا منظمة, تتداخل الألوان وأنماط البناء.
- المستوى التعليمي والاقتصادي غير مرتفع, السيارات تقف في الشارع كيفما اتفق.
- التعامل مع القمامة والزائد عن الحاجة, تعامل عشوائي, القطط كثيرة والكلاب .. ثمة فأر يقطع الشارع.
- المستوى الاقتصادي, وربما الثقافي منحدر, ملابس كثيرة تم نشرها على الشرفات.
*
في غرفة المعيشة.
- المناديل الورقية على وشك النفاذ من علبتها. انتبه.
- متدينون أهل البيت, فثمة إطار مذهب كبير بالأسماء الحسنى.
- صاحب البيت من الطبقة المتوسطة, انظر إلى الأرائك قماشاً وتنجيداً وترتيباً.
- شخص واحد – على الأقل – بالغ عاقل, يحب الخضرة, أنظر كمية وترتيب وتوزيع النباتات الصناعية.
- شخص واحد – على الأقل – بالغ عاقل, يحب قراءة الصحف والكتب,
- صاحب البيت وحيد, انظر كيف تتناثر الملابس في الأرجاء.
- العلاقة بين صاحب البيت وأمه وأبيه (الراحلين) مهتزة, انظر إلى صورة المتوفين الظاهرة في حجمها ومكان تعليقها.
9/4/2013م
عمان